إسرائيل تستفز تركيا في سوريا- حدود الردود والسيناريوهات المحتملة

المؤلف: كمال أوزتورك09.09.2025
إسرائيل تستفز تركيا في سوريا- حدود الردود والسيناريوهات المحتملة

يتجلى بوضوح، من خلال التصريحات الصادرة عن المسؤولين الإسرائيليين ووسائل إعلامهم في الآونة الأخيرة، بالإضافة إلى الاعتداءات المتكررة داخل الأراضي السورية، أن إسرائيل قد وضعت تركيا ضمن دائرة اهتماماتها وأهدافها الاستراتيجية.

إن إسرائيل، التي ترى في أي اتفاقيات تعاون دفاعي محتملة بين تركيا وسوريا تهديدًا وجوديًا مباشرًا لأمنها القومي، تنظر بقلق بالغ إلى فكرة قصف مواقع القواعد العسكرية التركية المتوقعة في الأراضي السورية، وتعتبره عملًا عدائيًا سافرًا وانتهاكًا صارخًا لسيادتها.

وقد أثار هذا الأمر قلقًا جمًا وتساؤلات حادة في الأوساط السياسية والعسكرية التركية، وسط ترقب شديد لطبيعة الرد التركي المتوقع على هذا التصعيد العدواني.

ما هي الأهداف الإسرائيلية؟

منذ اندلاع أزمة غزة، بات جليًا للعيان أن إسرائيل لم تعد تسير وفقًا لمنطق "الواقعية السياسية" البراغماتية، بل باتت تحركها دوافع "اللاهوت السياسي" الإيديولوجية.

وهذا يعني بكل بساطة أنها تسعى جاهدة لتحقيق حلمها القديم بإقامة "إسرائيل الكبرى" وتفعيل مشروع "أرض الميعاد" المتجذر في العقيدة الصهيونية، وقد عقدت في سبيل ذلك تحالفات وتفاهمات مع بعض التيارات المتطرفة داخل الولايات المتحدة.

وانطلاقًا من هذا المنظور اللاهوتي المتطرف، بدأت إسرائيل في توسيع رقعة نفوذها عبر احتلال أجزاء من أراضي الدول المجاورة. فقد استولت على أجزاء من غزة والضفة الغربية، بالإضافة إلى مناطق في جنوب لبنان. ومنذ اندلاع الأزمة السورية، كثفت وجودها الاحتلالي داخل الأراضي السورية، ولا يبدو أنها ستتوقف عند هذا الحد.

لقد أرسلت إسرائيل تهديدات مبطنة لكل من الأردن ومصر والسعودية، وتسعى جاهدة لفرض مشروع تهجير الفلسطينيين على هذه الدول. وتكمن جذور هذا المشروع التوسعي في نظرية "دول الجوار غير المستقرة"، التي ترمي إلى إضعاف محيطها الإقليمي.

إذ لا ترغب إسرائيل في أن ترى حولها أي دولة قوية، مستقرة، أو ذات اقتصاد مزدهر. إنها تعمل على تدمير البنية التحتية العسكرية في سوريا عبر قصف مستمر ومنهجي، ولا تسمح بأي شكل من الأشكال بإعادة بنائها أو تطويرها.

لذا، فإنها تعتبر أي وجود عسكري تركي داخل الأراضي السورية، أو أي دعم عسكري تركي للجيش السوري، أو حتى أي جهد تركي يهدف إلى تدريب القوات السورية، تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية. ولهذا السبب، تبدو إسرائيل الآن على استعداد لفعل كل ما بوسعها لمنع أي تواجد عسكري تركي دائم في سوريا.

الرد التركي عبر المسارات الدبلوماسية والضغط على واشنطن

تعتبر تركيا التصريحات والتصرفات الإسرائيلية العدائية بمثابة اعتداء صارخ عليها. وكانت أنقرة تأمل في أن ترى بعض الإشارات الإيجابية من إسرائيل تدل على التراجع، لكنها لم تتوقع أن تصل الأمور إلى حد قصف قاعدة "T4" العسكرية، أو أن ترتفع حدة التصريحات العدائية بهذا الشكل المبالغ فيه. وقد أثار هذا الأمر موجة من الغضب والاستياء في الشارع التركي، وفي دوائر صنع القرار.

وكان الرد الأولي من جانب تركيا عبر وزير خارجيتها، هاكان فيدان، الذي صرّح لوكالة "رويترز" قائلًا: "إن السلوك الإسرائيلي الحالي لا يستهدف سوريا فحسب، بل يهدف إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة بأسرها...".

وخلال اجتماعه مع وزير الخارجية الأميركي روبيو في الولايات المتحدة، أثار هاكان فيدان الموقف الإسرائيلي العدواني في سوريا، وأعرب بوضوح عن استياء تركيا العميق من هذا الوضع المتأزم.

وهذا التصريح يُفهم في سياق الجهود التركية الرامية إلى خفض حدة التوتر والتصعيد. فأنقرة تدرك تمام الإدراك أن أي صدام عسكري مباشر مع إسرائيل، في ظل الوضع السوري الهش والمتدهور، لن يفضي إلا إلى مزيد من الدمار والخراب في سوريا.

أما الخيار العسكري، فيظل محفوفًا بالمخاطر الجمة، لأنه قد يجر الولايات المتحدة إلى قلب المعركة الدائرة، ويفتح الباب على مصراعيه أمام حرب إقليمية كبرى، وهو ما تسعى تركيا جاهدة لتجنبه في الوقت الراهن. ولهذا السبب، تحاول أنقرة معالجة الأمر عبر القنوات الدبلوماسية الرفيعة وعبر ممارسة الضغوط على واشنطن.

وعلى الرغم من أن علاقات تركيا مع إدارة ترامب تسير على نحو جيد في الوقت الحالي، فإن تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية يجعل من الصعب التكهن بكيفية تعاطي واشنطن مع هذه الأزمة المعقدة في المستقبل القريب.

إسرائيل تعاني من نقاط ضعف جوهرية

في واقع الأمر، إسرائيل عاجزة عن فعل أي شيء يُذكر دون الدعم الأميركي المباشر واللامحدود. فالقدرات العسكرية التركية تتفوق بشكل ملحوظ على نظيرتها الإسرائيلية من حيث الحجم والتجهيزات المتطورة. كما أن السياسات العدوانية التي تنتهجها إسرائيل - من حروب واحتلالات وعمليات عسكرية متواصلة - قد أثقلت كاهل اقتصادها بشكل غير مسبوق.

فقد انكمش الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة مذهلة بلغت 25٪ خلال عام واحد فقط، ومن المتوقع أن تصل كلفة الحرب الحالية إلى ما يقارب 400 مليار دولار. أما حجم المساعدات الأميركية لإسرائيل، فهو غير معروف بدقة، إذ يتم تقديم جزء كبير منها عبر قنوات سرية، لكن المعلوم أن إسرائيل تلقت ما لا يقل عن 20 مليار دولار من الأسلحة المتطورة خلال عام 2024 وحده.

وفي ظل الانهيارات الاقتصادية المتتالية التي يشهدها العالم، من الصعب أن تتمكن إسرائيل من مواصلة هذه الحرب الباهظة إلى أجل غير مسمى. عاجلًا أم آجلًا، ستمارس الولايات المتحدة ضغوطًا هائلة لإجبارها على وقفها.

وفوق ذلك، فإن إسرائيل، التي تعاني من نقص حاد في عدد السكان والقوى البشرية العسكرية، لا يمكنها أن تخوض حربًا على أربع جبهات في وقت واحد، ولا أن تحافظ على تماسك جيشها بنفس القدر من الانضباط والفعالية.

أما الخلافات العميقة بين المؤسسة الأمنية ونتنياهو، فهي وإن لم تظهر إلى العلن بوضوح، إلا أنها موجودة وتتصاعد باضطراد. ومع التدهور المستمر للاقتصاد وتفاقم معاناة الناس، فإن الاحتجاجات الشعبية، التي بدأت بالفعل، ستزداد حدة وشراسة، وسيجد نتنياهو نفسه في نهاية المطاف خارج السلطة.

أوروبا تتجه نحو الابتعاد عن إسرائيل

لقد دخلت أوروبا في نزاع تجاري محتدم مع الولايات المتحدة، وهي تقف الآن، فيما يتعلق بالسياسة السورية، إلى جانب تركيا وليس إسرائيل، كما يتضح من تصريحاتها العلنية.

ومع تصاعد السخط الأوروبي تجاه السياسات الأميركية، من المتوقع أن يتحول هذا الغضب إلى موقف أكثر صرامة تجاه إسرائيل. فالاتحاد الأوروبي، الذي يسعى جاهدًا للانتقام من واشنطن بسبب الأزمات الاقتصادية التي تسببت بها، قد يتخذ خطوات ملموسة ضد السياسات الإسرائيلية العدوانية.

من المحتمل أن نشهد تعاونًا فرنسيًا- تركيًا وثيقًا في الملف السوري. وقد تصدر مواقف مماثلة من دول أوروبية أخرى مثل إسبانيا، وإيطاليا، وبريطانيا.

وهكذا، فإن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وتدهور العلاقات يدفعان أوروبا إلى انتهاج سياسات تتعارض بشكل كبير مع سياسات أميركا وإسرائيل.

نتنياهو لم يحصل على ما أراده من ترامب

تعتبر القضية السورية ذات أولوية قصوى للرأي العام في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة في إسرائيل وتركيا، لكنها لا تحظى بنفس القدر من الاهتمام في الولايات المتحدة. فالملف السوري لم يُدرج بعد على جدول أعمال الرئيس ترامب.

وفي محاولة لتغيير هذا الوضع، قام نتنياهو مؤخرًا بزيارة إلى الولايات المتحدة لعرض قضية سوريا على الرئيس ترامب وطلب دعمه لكبح النفوذ التركي المتزايد في سوريا.

لكن الأمور لم تجرِ على النحو الذي كان يأمله نتنياهو. فقد تعامل معه ترامب ببرود وتحفظ شديدين بشكل عام. وعندما طلب نتنياهو من ترامب إصدار تصريح داعم لإسرائيل بشأن أمنها في سوريا، تلقى ردودًا لم ترضِه على الإطلاق.

قال ترامب:
"لدي صديق عظيم، اسمه أردوغان. أنا أحبه كثيرًا، وهو يكن لي نفس المشاعر. لم تحدث بيننا أي خلافات على الإطلاق. لقد مررنا بالعديد من التجارب معًا. نتنياهو، إذا كانت لديك مشكلة مع تركيا، فأنا على ثقة بأنني قادر على حلها. آمل ألا تنشأ أي مشاكل.. لكن يجب أن تتحلى بالواقعية والاعتدال".

لقد أثارت هذه التصريحات استياء نتنياهو العميق. لكن تحذير ترامب بـ"أن تكون معقولًا" يحمل دلالة هامة، إذ يبدو أن مطالب إسرائيل ونتنياهو لا تنتهي، وترامب بدأ يشعر بالضيق والإزعاج منها.

تركيا بصدد إعادة تعريف قواعد الاشتباك

من الواضح أن الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية والاتصالات السياسية وحدها لن تكون كافية لردع العدوان الإسرائيلي المتصاعد في سوريا أو تجاه تركيا. ولذلك، فمن المرجح أن تتجه أنقرة إلى إعادة صياغة قواعد الاشتباك التي تنظم وجودها العسكري خارج حدودها. فعلى سبيل المثال، عندما تتعرض القوات التركية في العراق لهجوم من قبل جماعات إرهابية، فإن تركيا ترد على الفور وبقوة.

ولكن، ماذا لو كان الهجوم صادرًا عن دولة نظامية؟ بمعنى آخر، في حال قامت إسرائيل بقصف مواقع عسكرية تركية داخل الأراضي السورية، كيف سيكون الرد التركي؟ وهل سيتدخل حلف الناتو في هذه الحالة؟ وما هو موقفه من هذا الأمر؟

كل هذه التساؤلات المعقدة تفرض على تركيا ضرورة إعادة النظر في قواعد الاشتباك الحالية. وفي الوقت الراهن، تدور نقاشات مكثفة ومعمقة في الأوساط العسكرية والدبلوماسية والسياسية في أنقرة حول هذه المسألة الحساسة. وعلى الرغم من أن القرار النهائي لم يُتخذ بعد، فإن المؤكد أن تركيا ليست في وارد التراجع أو التنازل في هذه المرحلة الحرجة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة